مسجد نيوجيه ببكين
مسجد نيوجيه من أقدم المساجد في شمالي الصين. وقد بني سنة 996م حسب ما جاء في "تاريخ قانغشانغ". كان هناك عدد من المؤرخين يشكون في صحة ذلك. ولكن ينقصهم البرهان على نفي الأمر. ولذلك فان زمن بناء المسجد السالف الذكر ظل معترفا به على وجه العموم. وتفيدنا المدونات التاريخية ان أحد العرب، ويدعى الشيخ قوام الدين، قد جاء من بلده الى الصين. وكان معه ثلاثة أولاد: ابنه البكر صدر الدين، وابنه الثاني ناصر الدين، وابنه الثالث سعد الدين، وكلهم أذكياء وأكفاء فوق العادة. وكان من طبيعتهم ان عاشوا عيشة الاعتكاف، فلم يستسيغوا أبدا الوظائف التي منحهم إياها البلاط الإمبراطوري. ولذلك فقد انعم على كل منهم بلقب أمام المسلمين حين استوطنوا الصين. أما صدر الدين فقد غادر مقره الى أماكن أخرى لنشر الإسلام، ولم يرجع. وقام سعد الدين ببناء مسجد في دونغقوه (الناحية الشرقية من بكين)، كما قام ناصر الدين ببناء مسجد في ضاحية بكين الجنوبية (أي ناحية نيوجيه اليوم) بأمر من الإمبراطور. وهذا المسجد الأخير هو مسجد نيوجيه اليوم. وقد كان صغير الحجم في بادئ الأمر، ثم اصبح على الصورة التي نراها اليوم بعد توسيع بنائه مرارا في عهد أسرتي مينغ وتشينغ (1368-1911م). وفي سنة 1474م أطلق الإمبراطور عليه اسم "لي باي سي" (دار الصلاة). ولما تم ترميمه سنة 1696م على حساب البلاط الإمبراطوري منح لوحا مكبوبا عليه "دار الصلاة الإمبراطورية".
تبلغ مساحة هذا المسجد حوالي آلاف متر مربع. ومع ان مبانيه لا تختلف عن القصور الكلاسيكية الصينية شكلا وتوزعا إلا أنها مميزة بالزخارف الإسلامية الطراز. أما قاعة الصلاة في المسجد فتواجه الشرق، وهي تشكل مع القاعة المقابلة لها وجناحي المسجد الجنوبي والشمالي دارا مربعة مثالية (أي دار تحيط بها المباني من الجهات الأربع وتتوسطها ساحة رحبة). وأما بوابة المسجد، فهي مفتوحة الى الغرب، وأمامها حاجز طوبي كبير، ووراءها برج لمشاهدة الهلال، سداسي الأضلاع مزدوج الأفاريز. وأمام قاعة الصلاة اثنتان من مقصورات الأنصاب الصخرية، تنتصب إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال. وتبدو مباني المسجد منسجمة متناسقة ومحكمة. فهي مجموعة كاملة من المباني الرائعة.
وتتكون قاعة الصلاة من ثلاثة مبان متراصة طولا، وتستغرق خمس فسح عرضا. وهي تغطي مساحة قدرها أكثر من ستمائة متر مربع، وتتسع لقرابة ألف مصل في آن واحد. ولو ألقيت نظرة على القاعة من الخارج، لوجدتها مبنى كلاسيكيا صينيا نموذجيا بما تتميز به من الأفاريز المرفوعة والتركيبات الخشبية الزاهية الألوان، غير ان زخارفها الداخلية إسلامية الطراز تماما. وهي تثير في النفوس شعورا بالمهابة الإجلال. ومحارب قاعة الصلاة مسقوف بمقصورة مسدسة الأضلاع مخروطية الشكل .. مميزة بالسقف الدائري الملون من عهد أسرة سونغ (960-1279م). وعلى جدرانها الجنوبية والشمالية نوافذ مكونة بالكتابات العربية. وفي قاعة الصلاة ثماني عشرة دعامة واحد وعشرون عقدا. وتظهر على عتبات العقود العليا نقوس من الآيات القرآنية والتسابيح الإلهية والمدائح النبوية القوية الخطوط .. وعلى جنبات الدعامات القرمزية اللون نقوش لزهور النيلوفر المموهة بالذهب، مما يشكل مع الثريات المعلقة في القاعة منظرا فريدا من نوعه. وهو يبهر الأبصار ويبعث على المهابة. وكان لهذه القاعة عيب متمثل في الحرارة الخانقة التي يعاني منها المصلون صيفا والبرد القارص شتاء لشدة قدمها، ولكن هذا العيب قد تم تفاديه بعد تزويدها بأجهزة التهوية منذ سنوات. ولو ذهبت الى الركن الجنوبي الشرقي من المسجد لألفيت نفسك أما مرقدين أخيرين للشيخ احمد البرتاني المتوفى سنة 1280 م والشيخ عماد الدين المتوفى سنة 1283م، وهما من علماء الإسلام العرب الذين جاءوا الى الصين لنشر الإسلام. وتنتصب بجوار هذين الضريحين شاهدتان منقوشتان بكتابات عربية واضحة الخطوط حتى يومنا هذا. وهما في نظر المسلمين المحليين من روائع الآثار الإسلامية.
ومن ضمن محفوظات المسجد لوح منقوش عليه أمر، أعلنه الإمبراطور كانغشي سنة 1694م بخصوص المسلمين. اذ قيل انه لما وجد الحاقدين على الإسلام المسجد مضاء بالأنوار المتألقة في ليالي رمضان، وشي بالمسلمين الى الإمبراطور بدافع التقرب اليه، وزعم قائلا: "ان المسلمين يجتمعون ليلا، ويتفرقون نهار، فيبدو أنهم يستعدون للتمرد". فتوجه الإمبراطور ¨C وهي في بزة مدنية- الى المسجد خفية للتحقق من الأمر. ولكن تبين له ان كل ما ورد في وعظ الإمام هو من التعليم الإسلامية الداعية الى الخير والناهية عن الشر، فما لبث ان أصدر أمرا جاء فيه: "ليكن في علم جميع المقاطعات انه: اذا افترى أحد الموظفين أو الرعايا على المسلمين بالتمرد، متذرعا بذريعة تافهة، فلا بد من معاقبته معاقبة شديدة قبل استشارة القيادة العليا. وليتمسك المسلمون بالإسلام دون السماح لهم بمخالفة أمري هذا ..".
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949 خصصت الحكومة مبلغا لترميم مسجد نيوجيه ترميما شاملا ولكنه عاني من التخريبات الخطيرة في هوس "الثورة الثقافية"، كما أغلقت أبوابه أكثر من عشر سنوات. وفي سنة 1979 أعيد ترميمه على نطاق واسع. وعبر أكثر من سنة من الإصلاحات الدقيقة تجددت ملامح هذا المسجد العريق كما كانت عليه سابقا.